ما بين بابنوسة و”غراند هيل”: مفارقة بلدٍ يُحارَب ويُدار من صالون الفندق
بقلم: عبد الماجد عبد الحميد
في بلاد تُخاض فيها المعارك الحقيقية على تخوم المدن، تُدار السياسة من بهو فندق في مدينة لا تسمع فيها غير صوت البحر. مشهدٌ شديد التناقض، يختصر ببلاغة مأساة السودان الراهنة.
■ في مدينة بابنوسة، حيث تُصنع ملاحم الصمود، يقف القائد درموت شامخًا كرمز نادر في سجل الرجولة والثبات، يقاتل ومعه رجاله من أبناء القوات المسلحة والمجتمع المحلي جحافل التمرد ويُلقّن المليشيا درسًا بعد آخر في فنون المقاومة والمواجهة. هناك تُكتب يوميًا فصول من ملحمة الكرامة، عنوانها: “لا مكان للانهزام في غرب كردفان”.
■ أما في الطرف الآخر، في مدينة بورتسودان، وتحديدًا في فندق “غراند هيل”، يقيم الدكتور كامل إدريس رئيس الوزراء المُعيّن. يقضي نهاره في اجتماعات نخبويّة لا تنتهي مع جماعات تنظيرية أشغلت رأس الرجل بنظريات سياسية متعالية، لا ترى الواقع ولا تعيشه. تلك الجماعات التي اختطفت المشهد من بوابته الخلفية، وجعلت من مجموعة “قروبها” حاضنةً سياسية وتنظيمية مغلقة، تُشكّل فيها الحكومة القادمة وفق مشتهيات الهوى لا ضرورات المرحلة.
■ المفارقة مؤلمة بحق: في بابنوسة تُراق الدماء، وفي بورتسودان يُسرف البعض في أحاديث النُخَب. وبينما تكتب القوات المسلحة سطورًا جديدة في كتاب العزة، يغرق رئيس الوزراء المُعيّن في جدليات عبثية حول كيمياء الواقع السياسي، دون أن يدرك أن هذا الواقع لا ينتظر تأملاته الطويلة ولا مشاوراته المُربكة.
■ ومن دروس التجربة مع الدكتور كامل إدريس أن البلاد لا تتوقف على “حكومة فندقية”. الشعب السوداني، بطوله وعرضه، يسيّر حياته يوميًا دون أن ينتظر قرارًا من رئيس الوزراء أو عونًا من وزير. فالمعركة لم تعد سياسية فقط، بل معركة وجود، تتطلب قيادة ميدانية لا تنظيرًا من علٍ.
■ بل الأدهى من ذلك، أن انشغال البعض بتشكيل حكومة كاملة إدريس، التي لم تخرج حتى الآن من قوالب “الرؤية والرسالة”، قد صرف الأنظار عن أولويات الحشد لمعركة الكرامة، وكأننا نسينا أن الحرب لم تضع أوزارها، وأن كل ساعةٍ تضيع من دون حسم هي فرصة جديدة للعدو كي يعيد ترتيب صفوفه.
■ يا سادة، أعيدوا البوصلة إلى الاتجاه الصحيح. الكرامة التي تُصان في بابنوسة لا تستقيم مع اللهو السياسي في بورتسودان. وأعيدوا الزخم إلى ساحات النضال، ودعوا “مجموعة الأمل” تجرب حظها في مختبر النظريات بعيدًا عن دماء الرجال وعرق المقاتلين.
■ الحرب لم تنتهِ بعد. ومثلما قال الأوّلون: الجواب يكفيك عنوانه.
■ وختامًا، نقولها كما نؤمن بها:
نصرٌ من الله، وفتحٌ قريب.