غناء البنات.. تطريب اجتماعي لا “قلة أدب”
يُعدّ “غناء البنات” أحد أبرز أشكال التعبير الشعبي العفوي، وهو نمط غنائي بسيط في لغته، مباشر في معناه، شديد الارتباط بالوجدان الجمعي للفتيات، إذ يعكس أحلامهن وتطلعاتهن وحتى إحباطاتهن، من خلال مقاطع قصيرة متغيرة، تتبدل كلماتها وفق المناسبة والمكان والمزاج. ومن لطائف هذا النوع أن كل مجموعة فتيات قد تضيف أو تحذف أو تبدل في الكلمات كما تشاء، فتغني إحداهن:
“يا الماشي لي كسلا / جيب لي معاك شتلة / زي لونك أو أحلى”،
بينما ترد أخرى ساخرة:
“يا الماشي لي كسلا / جيب لي معاك بصلة”.
قد تبدو هذه الأغاني ركيكة إذا ما قِيسَت بمعايير النقد الأدبي أو البلاغي، لكنها تحقق غرضها الأساسي: التطريب والتنفيس. وإن كانت هناك إسفافات أو ابتذال أحيانًا، فهي انعكاس لثقافة مجتمع بأكمله، لا نتيجة تدخلات خارجية. بل إن هذه الأغاني – على سذاجتها أحيانًا – أكثر تهذيبًا من بعض الأغاني التي يتداولها الرجال في جلساتهم الخاصة.
غناء البنات.. مرآة الواقع لا مهرب منه
غناء البنات ليس مجرد لهوٍ أو ترفٍ، بل هو متنفس اجتماعي صادق، يحمل أبعادًا تعبيرية لا تخلو من الدعابة، بل فيها حس ساخر ذكي يلتقط تفاصيل الحياة اليومية بدقة مدهشة. من الأغاني الرائجة في زمن مضى أغنية تقول:
“هاك قلبي لقميصك أعملو زراير / هاك توبي لأوضتك أعملو ستاير”،
رغم ركاكة النص و”خارميته البارمة”، فإن الناس كانت ترددها بسعادة وطرافة.
ويجدر التذكير هنا أن أغاني البنات لا تُنسب لمؤلفين أو ملحنين بعينهم، بل تنتمي إلى الفولكلور الشعبي، على عكس بعض الأغاني التي تؤديها فنانات محترفات، والتي يكون مصدر ركاكتها معلومًا وواضحًا. ومع ذلك، فإن لغناء البنات خصائص بلاغية فريدة، كقولهن مثلًا:
“أمه ما راضية بيا / وأخته ما دايرة ليا / بسويها عرفية / وبعدين قسمة شرعية”،
أو قول إحداهن ساخرة:
“قالوا أمه حنكوشة / وبتتكلم برموشها / أنا حبيت وليدها عشان خاطر قروشها”،
وهنا لعب لفظي شفاف يعكس واقعًا لا يمكن إنكاره.
ومن أظرف ما قيل أيضًا:
“يا يابا يا والد / ما تبقى لي عارض / طفشت ود الناس بكلامك البارد!”،
وهو بيت غنائي ذو روح خفيفة، يلتقط بسخرية واقعية صورة اجتماعية متكررة.
ليس في الأمر قلة أدب
يجب التأكيد على أن غناء البنات الحقيقي، كما يُؤدى في المجالس النسائية المغلقة أو أثناء مناسبات الأفراح، لا يحتوي على فحش أو إسفاف. بل هو غناء جماعي، جماهيري، تردده عشرات النساء في لحظات الفرح أو المرح، ويهدف بالدرجة الأولى إلى التسلية الجماعية.
أما ما يُروج له في بعض المنصات على أنه “غناء بنات”، فهو في الغالب لا يمت بصلة لهذا الفولكلور، بل ينتمي إلى فئة أخرى تُعرف بـ”القونات”، وهن حارسات المرمى كما يُقال، ممن يقدمن محتوى استعراضيًا ذا طابع استهلاكي لا علاقة له بالفن الشعبي الأصيل.
حلم البنت تغيّر
غناء البنات، في جوهره، يتغير بتغير الظروف. ففي زمن مضى، كان حلم الفتاة أن تتزوج من “ضابط بدبورتين أو مغترب سنتين”، أما اليوم، فقد تغيرت المعايير وصار “اختطاف المتزوجين” (الشلب) ممارسة شائعة، بعد أن كانت المرأة ترفض حتى المطلقين. وكل هذا تجسيد مباشر للمتغيرات الاجتماعية التي انعكست بدورها في الأغاني.
الفضيلة لا تُحمى بحظر الأغاني
خلاصة القول: إن التهجم على أغاني البنات ووصمها بالانحطاط ما هو إلا ممارسة لـ”طق الحنك” لا تقدم ولا تؤخر. ولمن يصرّ على شن حرب على “الهبوط الغنائي”، ننصحكم بتحويل بوصلتكم إلى ما هو أهم: حاربوا الجوع، والمرض، والجهل، والأمية، وستجدون بناتنا يغنين عن الشبع والعافية والكرامة.
ألم تهتف النساء في زمن مضى:
“الله لي كوريا يا شباب كوريا”، تحية لصمود أمة بأكملها؟
فهل نلومهن اليوم على أغنية تقول:
“ضربني وسكني القُش، لكن قالي ما بمشي”؟
ملاحظة ختامية: هل هناك “قون” ذكر؟
سؤال مفتوح للنقاش: ما أصل كلمة “قونة”؟ وما معناها تحديدًا؟ وهل يمكن أن يكون هناك “قون” ذكر في مجال الغناء؟
ربما تكشف لنا المداخلات القادمة عن “مثقفين ومثقفات” في علم غناء البنات والقونات…
فلا تتعقدوا، وهاتوا ما عندكم.